سمعت مرة من الأديب السوري الراحل عبدالسلام العجيلي، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، أن أحد كتبه المطبوع منه ألف نسخة في ستينيات القرن الماضي مازال متداولاً في السوق بطبعته الأولى.
وكان العجيلي يتحدث بسخرية مُرَّة أن الألف نسخة لم تنفد حتى ذلك التاريخ!
مصدر سخرية العجيلي ليس الشكوى من تراجع حال القراءة في العالم العربي بشكل يناقض انتشار التعليم، اسمياً على الأقل، مع تصاعد المواجهة مع أمية القراءة والكتابة، بل من عدم صدق الناشر، فألف نسخة من كتاب لكاتب له سمعة العجيلي لا يمكن أن تبقى في مخازن الناشر ثلاثين سنة، وفي الأصل لا يمكن أن تصمد النسخ المخزنة ثلاثة عقود دون أن يدركها التلف.
وإذا افترضنا صدق الناشر في ما يتعلق بعدد النسخ المطبوعة من كتاب العجيلي، وهو من هو في عالم القصة العربية، فما حال كتَّاب أقل نجومية، أو كتاب يخوضون تجربتهم الأولى في عالم النشر؟
تلك ملاحظة أولى من كواليس عالم النشر في العالم العربي حول عدم صدق معظم الناشرين في جزئية عدد النسخ المطبوعة من أي كتاب. فالعقد بين الناشر والكاتب، إنْ وُجد، يحدد عدد النسخ المطبوعة، وعدد سنين متفق عليها يلتزم فيها الكاتب بالتنازل عن الحقوق المعنوية، دون المادية. والحقوق المعنوية هي الناتجة عن الاتفاق على "احتكار الناشر للكتاب" لمدة تتراوح بين ثلاث وسبع سنوات للطبعة الواحدة، إلا إذا نفدت نسخ الكتاب في مدة أقل.
حقوق مهدورة
في ما يتعلق بالحقوق المادية للكاتب، تختلف هذه حسب الاتفاق بين الطرفين، ولا تقل عن 10% حسب ما أعلم، ولا تزيد على 25%.
هذا بافتراض أن الناشر تكفل بمصاريف النشر كاملة. ففي العالم العربي أصبحت القاعدة أن يدفع الكاتب، ما لم يكن نجماً، تكاليف طباعة الكتاب التي يحددها الناشر. بالطبع هذه التكاليف في ثناياها أرباح مدفوعة سلفاً للناشر. ويتفق الطرفان، وغالباً ما يكون هذا الاتفاق شفوياً، على تقاسم عائدات بيع الكتاب بنسبة 50% لكل طرف، أو 40% للكاتب، و60% للناشر، على أن يلتزم الناشر بتوزيع الكتاب داخلياً، وأن يسافر به إلى المعارض العربية التي تغطي أشهر السنة كلها تقريباً.
ولاحقاً لتعبير الاتفاق الشفوي، فإن هذا الاتفاق غالباً لا يصل إلى نتيجة كونه شفوياً، لأن عدد النسخ المطبوعة هو سر الناشر. وحين يطالب الكاتب "ناشره" بجرد لعدد النسخ المتبقية من الألف نسخة المطبوعة اسمياً، يقدم له الناشر أرقاماً لا يملك أمامها الكاتب إلا أن يصدق حتى لو كان كل الشك يسكنه.
هذه الملاحظات ليست من خيالي. فقد كانت لي تجربة متابعة نشر أكثر من عشرين كتاباً كخدمة شخصية لأصدقاء (في مدة عشر سنوات من الإقامة في دمشق حتى صيف 2011، وقبل ذلك في بيروت). كما تابعت طباعة عدد من المجلات الفصلية لمدة سبع سنوات، ما أتاح لي الاحتكاك بناشرين في دمشق وبيروت. وهو أمر ترك لدي انطباعات متشائمة عن طريقة تعامل الناشر مع المؤلف.
غير هذا، يحق للناشر التعامل مع السلعة التي ينتجها على أنها ستدخل السوق وتتنافس مع مثيلاتها في المكتبات ومعارض الكتب، مع ما يعنيه ذلك من حسابات للتكاليف، والمخاطرة برأس المال، ومقدار التكوين الرأسمالي لدار النشر، أو المطبعة (إن كان للدار مطبعتها الخاصة).
هذا بالإضافة إلى حسابات الربح والخسارة، والعائد على الاستثمار، والجدوى الاقتصادية، واسم الشهرة لدار النشر، ومدى نجومية الكاتب (اسم الشهرة أيضاً).
الكتاب، إذن، سلعة لها ثمن. ولا نقصد هنا أن كل الكتب تتماثل في طريقة تسعيرها، فتكاليف النشر الأساسية تتغير تبعاً لأسعار الورق، ومصدر الورق، وجودته، بالإضافة إلى أن اسم الكاتب يلعب دوراً في ذلك. الطبعة الثانية، أو الثالثة، أو أكثر، تساهم منطقياً في تسعير الكتاب بقيمة أقل من الطبعة الأولى. كما أن حجم الطبعة يساهم في خفض التكاليف، وبالتالي يكون سعر الوحدة الواحدة من الكتاب أقل كلما زاد عدد الوحدات المطبوعة.
الكتاب غير مبجَّل
التناقض الأساسي الذي وقع فيه الناشر العربي هو الالتباس الذي أقنع فيه نفسه، ومحاولته إقناع الآخرين، بأن الكتاب سلعة مبجلة تختلف عن السلعة التي تؤكل، أو تُشرب، أو غير ذلك.
لعل الأمر كذلك! لكن رفع سعر الكتاب من طرف واحد، وتسعيره بناء على حجمه، وعلى اسم الكاتب فقط، يحط من تبجيل هذه السلعة خلافاً لما ادعاه الناشر.
مع ذلك، يعد تعامل الناشر مع الكاتب غير النجم النقطة الأساسية التي تحط من قدر الناشر، عندما يحبط الكاتب بشروطه المجحفة، ووعوده المؤجلة غير المنوي تحقيقها.
كتاب الريزو
في السنوات الأولى من القرن الجديد، "ازدهر" نشر الكتب في دمشق، كما تفشت ظاهرة قرصنة الكتب التي لاقت شعبية بعد وصولها إلى دمشق قادمة من مطابع بيروت خاصة.
السهولة التي صدَّرت فيها دور النشر الجديدة الكتب إلى أرصفة دمشق كانت بسبب المطابع رخيصة الثمن.
الاسم المتداول لهذه المطبعة "ريزو". وهي ليست مطبعة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل آلة تصوير تفوق قدرة آلة النسخ المعروفة (فوتو كوبي). ويستطيع أي عامل استيعاب تقنيتها البسيطة خلال أيام، بدءاً من طريقة إعداد الـ"بلاك" الخاص بها، ثم طريقة جمع الورق المطبوع ورقة ورقة ليشكل كتاباً، وطريقة التجليد اليدوي بعد وضع الغلاف عليه، ومن ثم قص النسخ لتبدو متماثلة في الحجم.
للريزو أحجام مختلفة، منها ما يطبع صفحة واحدة من الكتاب في كل دورة، ومنها ما يطبع صفحتين، والكبيرة الحجم تطبع أربع صفحات.
ويكفي أن تكون مساحة المكان الافتراضي الذي تتوسطه آلة الريزو 20 متراً مربعاً، تحيط بها ثلاث طبقات من الرفوف يتم وضع الصفحات المطبوعة عليها بترتيب معين، قبل أن يجمعها عامل بشكل يدوي، تمهيداً لقصها إن كانت مؤلفة من صفحتين، أو أربع صفحات، ومن ثم تجليدها، وقصها من جديد لتتلاءم مع حجم الغلاف.
والمساحة الإضافية لآلة التجليد، وآلة القص، لا تتجاوز أيضاً 20 متراً مربعاً. تبقى مساحة ضرورية للتخزين الموقت للكتب الجاهزة. ويمكن أن تكون المساحة الكلية لهذه المطبعة العجيبة في حدها الأدنى 50 متراً مربعاً. وإذا أضيف لها مكتب صغير، وحمام، ومطبخ صغير (أو بوفيه)، يكفي أن تكون المساحة 80 متراً مربعاً. ومثل هذه الأماكن شاهدتها في أكثر من حي دمشقي.
في عام 2001، وما قبل كان ثمن آلة الريزو من الحجم الكبير يصل إلى 1500 دولار أميركي، ولا يتجاوز ثمنها ألف دولار للحجم الوسط.
ميزة آلة الريزو، خلافاً للمطابع الـ"أوفست"، هو انخفاض تكاليف الطبع في حال كانت الطبعة 100، أو 300، أو 500 نسخة، وهو ما يناسب الكاتب المبتدئ الذي يريد توزيع كتابه لأصدقائه الشخصيين وللصحافة. وفي عام 2001، كانت تكلفة طباعة 500 نسخة من كتاب عدد صفحاته 160 (10 ملازم) تصل إلى 22 ألف ليرة سورية (نحو 463 دولاراً عند سعر للدولار آنذاك يساوي 47.5 ليرة سورية).
بالطبع، يتضمن هذا المبلغ أرباحاً للناشر الطابع منظورة سلفاً. وفي حال رغب الكاتب بأن يتولى الناشر توزيع الكتاب، يتقاسم الناشر والكاتب العائدات مناصفة.
أما في حال كان عدد النسخ المطبوعة من الكتاب ألف نسخة، أو أكثر، فإن آلة الريزو تفقد ميزتها الاقتصادية، وتتقارب التكاليف مع تكاليف طباعة الأوفست، ومع تكاليف المطابع الديجيتال الحديثة التي كان يصل ثمنها ما بين 25 و50 ألف دولار في عام 2011 وما قبل. ووقتها، كانت المطابع التقليدية، على قدمها، تكلف مع ملحقاتها مبالغ تصل إلى نصف مليون دولار، وتحتاج إلى مكان كبير نسبياً يتسع لآلات ضخمة الحجم.
الناشر و"زبائنه"
يمكن تلخيص أمراض النشر في العالم العربي انطلاقاً مما سبق في العلاقة الملتبسة بين الناشر والكاتب.
أولاً: ينظر الناشر إلى الكاتب كـ"زبون" أول قبل القارئ نفسه. هنا يقوم الناشر بـ"اقتصاص" حقه من الكاتب سلفاً، إن كان سيتكلف باحتياجات صناعة الكتاب، أو وقع هذا العبء على الكاتب نفسه.
ثانياً: "الزبون" الثاني هو القارئ. هنا يجب ملاحظة أن عدد النسخ المطبوعة من الكتاب الرائج لا تتجاوز خمسة آلاف نسخة. وعليه، فإن الناشر مضطر هنا لتسعير الكتاب بشكل يغطي تكاليفه، ويعوض فرصة الاستثمار البديل في سلعة أخرى، حيث يتوقع غالباً أن دورة رأس المال للكتاب المطبوع تستغرق من سنة إلى ثلاث سنوات.
ومع ملاحظة أن مستوى الدخل منخفض بشدة في العالم العربي، ما عدا منطقة الخليج، فإن سعر الكتاب يكون باهظاً نسبياً قياساً إلى دخل الفرد، أو الأسرة.
حل هذه المعضلة هو في طبع خمسين ألف نسخة فما فوق، وعندها ستنخفض التكاليف بنسبة تقترب من 40%، ويصبح كتاب ثمنه ما يعادل 10 دولارات أميركية حوالى 6 دولار أميركي.
هذا الحل مستحيل التطبيق مع دور النشر الصغيرة التي لا تستطيع توزيع ألف نسخة في سنتين. الملاحظة المشتقة هنا تأتي من الدور المثبط الذي تلعبه أجهزة الرقابة على الكتاب في العالم العربي، فحتى لو غامرت دار نشر بطباعة 50 ألف نسخة من كتاب، وكانت تمتلك القدرة الاقتصادية المساعدة على انتظار دورة رأس مال ضخم تمتد لثلاث سنوات في الحالات الطبيعية، فستجد في عسس الرقابة العربية ما يمنعها من تحقيق النجاح في هذه المغامرة.
هذه الحجة التي يواجهنا بها الناشر هي من نوع "كلام حق يراد به باطل". والحال أن ضعف الناشر مالياً، وضعفه إدارياً أمام 22 جهاز رقابة على الكتاب في العالم العربي، يتحول إلى قوة غاشمة عندما يجد نفسه في مواجهة الكاتب الذي يبدو بلا حول ولا قوة، غالباً.
ربيع الكتاب
للمقارنة، وجدتُ ثمن النسخة من كتاب "الهويات القاتلة" لأمين معلوف باللغة التركية 11 ليرة تركية في مكتبات اسطنبول (أقل من 4 دولار أميركي)، تقابلها النسخة العربية المترجمة من الكتاب والمعروضة في مكتبات عربية بدأت تنتشر في اسطنبول بسعر 36 ليرة (12.6 دولار أميركي)!
عدد الناطقين بالتركية في العالم، كلغة أصلية، يبلغ 63 مليون نسمة (ويكيبيديا وفق تقديرات نسخة 2007). وقد يتجاوز العدد 100 مليون باحتساب ذوي الأصول التركية في العالم، وعدد أكراد تركيا الذين لن نجازف بالحديث عن عددهم بسبب الاختلاف الشديد في تقدير هذه الأعداد.
مع ذلك، تمكن الناشر التركي من تقديم كتاب رخيص الثمن في بلد يتجاوز فيه متوسط الدخل الفردي السنوي 11 ألف دولار أميركي.
الحال أن عدد الناطقين بالعربية وفق المصدر نفسه، والسنة نفسها، يصل إلى 295 مليون نسمة، مع متوسط دخل سنوي وصل في سوريا، مثلاً، إلى 5043 دولاراً في عام 2010 (قائمة مجلة "Global Finance" لأغنى وأفقر دول العالم). ولو افترضنا، جزافاً، أن هذا الدخل في سوريا هو متوسط دخل الفرد في العالم العربي، سنجد أنه يعادل نصف دخل المواطن التركي، لكن العربي يدفع ثمناً لكتاب "الهويات القاتلة" أكثر من ثلاثة أضعاف ما يدفعه التركي.
لابد من فساد
لا تنتهي مشاكل النشر في العالم العربي عند تلك الملاحظات السريعة، فلابد من السياسة، وعلاقة الرقابة بذلك، كما لابد من الحديث عن تراجع القراءة وعلاقتها مع أمية القراءة والكتابة، بالزيادة أو النقصان، والعلاقة مع ازدياد أعداد الأميين من خريجي الجامعات، وتراجع قيمة عملات الدول العربية بسبب ظاهرة التضخم المستورد في اقتصادات عربية ريعية تعتمد على تصدير الخامات، واستيراد السلع المصنوعة... إلخ.
الحال أن التشاؤم يزداد، والتحليل يتعقد، كلما أوغلنا في أعمدة وأسطر مصفوفة أسباب: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟
وفي القلب من ذلك أن دولنا غير ديمقراطية، وستبقى غير ديمقراطية ما لم نفك الاشتباك، بعد زمن قد يطول، بين تسميتي "ثورات الربيع العربي"، و"ثورات الخريف العربي".
ولأنه لابد من الديمقراطية، فلابد من الكتاب بين أيدي الناس كلهم، كوجه من أوجه الحوار العلني التقليدية. ولحصول ذلك، لابد من تقديم الكتاب كسلعة استقراب شعبية لا تخضع للضريبة المضافة. فهذه الضريبة يتحملها المستهلك عموماً، والقارئ في حالة الكتاب.
ودون تحقيق ربيع للكتاب في العالم العربي سيستمر خريف الدكتاتور المتحالف مع الفساد إلى ما لانهاية.